سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {يَشْكُرُونَ ياصاحبى السجن} يريد صاحبي في السجن، ويحتمل أيضاً أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحباً فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب.
المسألة الثانية: اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنياً على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناماً على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام، فلهذا السبب شرع هاهنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعاً من الدلائل والحجج.
الحجة الأولى: قوله: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} وتقرير هذه الحجة أن نقول: إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل، وكون الإله واحداً يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال هاهنا: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.
والحجة الثانية: أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار، فقوله: {ءأَرْبَابٌ} إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحداً وقوله: {مُّتَّفَرّقُونَ} إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر، واللون والشكل، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله: {مُّتَّفَرّقُونَ} إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهاراً فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.
والحجة الثالثة: أن كونه تعالى واحداً يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحداً ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو، فهذا أيضاً وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.
الحجة الرابعة: أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى.
الحجة الخامسة: وهي شريفة عالية، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهاراً لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكناً لكان مقهوراً لا قاهراً ويجب أن يكون واحداً، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهراً لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهاراً إلا إذا كان واجباً لذاته وكان واحداً، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئاً غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس.
فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان:
السؤال الأول: لم سماها أرباباً وليست كذلك.
والجواب: لاعتقادهم فيها أنها كذلك، وأيضاً الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير: والمعنى أنها إن كانت أرباباً فهي خير أم الله الواحد القهار.
السؤال الثاني: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار؟
الجواب: أنه خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} وفيه سؤال: وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} وذلك يدل على وجود هذه المسميات. ثم قال عقيب تلك الآية: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض.
الجواب: أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين:
الأول: أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية، وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل.
الثاني: يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية، وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسماً كبيراً مستقراً على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء.
واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول: إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك، فأجاب الله تعالى عنه، فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهاناً ولا دليلاً ولا سلطاناً، وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له، ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء، قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لابد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب، ثم إنه تعالى إذا وفق إنساناً حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة، فلهذا قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.


{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)}
اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه، والمعنى ظاهر، وذلك لأن الساقي لما قص رؤياه على يوسف، وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له يوسف: ما أحسن ما رأيت أما حسن العنبة فهو حسن حالك، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن، وقال للخباز: لما قص عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من رأسك، ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئاً فقال: {قُضِىَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} واختلف فيما لأجله قالا ما رأينا شيئاً فقيل إنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئاً وقيل: إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئاً.
فإن قيل: هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل الله تعالى أو بناء على علم التعبير، والأول باطل لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا} [يوسف: 42] ولو كان ذلك التعبير مبنياً على الوحي لكان الحاصل منه القطع واليقين لا الظن والتخمين، والثاني: أيضاً باطل لأن علم التعبير مبني على الظن والحسبان.
الجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما لما سألاه عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فإن الله تعالى أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص، فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير، ولا يبعد أيضاً أن يقال: إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير، وقوله: {قُضِىَ الامر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ما عنى به أن الذي ذكره واقع لا محالة بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.


{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجياً، وعلى هذا القول وجهان:
الأول: أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين، وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي.
قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن.
قال تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ} [البقرة: 46] وقال: {إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] والثاني: أن تحمل هذا الظن على حقيقة الظن، وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي، بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم، وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان.
والقول الثاني: أن هذا الظن صفة الناجي، فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته، ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه، فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن.
المسألة الثانية: قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} أي عند الملك. والمعنى: اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه، ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس، فهذا هو المراد من الذكر.
ثم قال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ} وفيه قولان: الأول: أنه راجع إلى يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه، وعلى هذا القول ففيه وجهان:
أحدهما: أن تمسكه بغير الله كان مستدركاً عليه، وتقريره من وجوه:
الأول: أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله، وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام، فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال: هل من حاجة، فقال أما إليك فلا، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض، وذلك التوحيد، ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين، ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين، والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين، وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين: أحدهما: أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه.
الثاني: أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة.
الوجه الثاني: أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان {أَأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] ثم إنه هاهنا أثبت رباً غيره حيث قال: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً، بل حكم عليه بالربوبية كما يقال: رب الدار، ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب.
الوجه الثالث: أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وذلك نفي للشرك على الإطلاق، وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى، فهاهنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد.
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب.
الوجه الثاني: في تأويل الآية أن يقال: هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك، إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك.
القول الثاني: أن يقال إن قوله: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ} راجع إلى الناجي والمعنى: أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} بهذا السبب، ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال: «رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن».
وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله، وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه: ما حاجتك قال: أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف، وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي.
قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله، والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة، والشدة والرزية، وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق، ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة.
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة، ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه، وأيضاً ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف، لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه.
المسألة الثالثة: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركاً من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً به، وعند هذا نقول: الذي يصير مؤاخذاً بهذا القدر لأن يصير مؤاخذاً بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا الله تعالى آخذه بهذا القدر، ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتة، وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
المسألة الرابعة: الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة، وأما النسيان فلا، لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب، والشيطان لا قدرة له عليه، وإلا لكان قد أزال معرفة الله تعالى عن قلوب بني آدم.
وجوابه: أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة.
المسألة الخامسة: قوله: {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} فيه بحثان:
البحث الأول: بحسب اللغة قال الزجاج: اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة، وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: كم البضع قالوا الله ورسوله أعلم قال: ما دون العشرة واتفق الأكثرون على أن المراد هاهنا ببضع سنين، سبع سنين قالوا: إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين، وروي أن الحسن روى قوله صلوات الله عليه وسلامه: رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11